اختيار الوحده

نعلم جميعا ان الوحدة فى حد ذاتها أمرا من الصعب الاعتياد عليها ، بل انها مكروهة والكل يرفضها بجميع الاحوال ، هذا متفق عليه ولا غبار على هذه الحقيقة .

لكن هناك وحدة مختارة بكامل إرادة الانسان ، هناك من يختارها لانها راحته وهى من إعتاد عليها ، بل هى عالمه الخاص ، الذى لا يشاركه فيه أحد ، فالذى يشاركه فيها هو الذكريات .

لكى تقتنع بهذا القول عليك تخيل حياة هذا الشخص الذى تعود على الوحدة واختارها بكامل إرادته .

منذ الطفولة تعود هذا الشخص على عدة أشخاص محددين ، كانوا كل حياته ، هم من يمثلون له عالمه الخاص ، بل هذا العالم وجد فيه راحته وكل غايته ، اكتفى به ورضى بهذا العالم حيث انه لا يريد سواه .

لما يريد غيره وهو وجد راحته فيه ومعهم ، تعود معهم على البساطة بل تعود على التعامل مع هؤلاء فقط ، لم يجرب التعامل مع غيرهم ، حيث الغير هذا لا يفهمه ولا يستوعبه ، ولا يعرف ماذا يريد ، بالتالى الغير لا يعطيه هدوءه الذى يجده مع من يرتاح لهم والذى ايضا إكتفى بهم .

معهم لم يدرك انه وحيد أو ضعيف أو حتى انه يحتاج لعالم أكبر منهم بل معهم وبهم شعر بالدفء والطمائنينة لدرجة انه يرى عالمه المحدود على انه عالم كبير لا حدود له ، رحب السعة يشمله ويشمل كل من يحبه .

بمرور الايام يكبر هذا الشخص ولا عالمه يكبر ، وهو يزال سعيدا به ، ولا يعى انه صغيرا بهذا العالم ، لانه لا يقوى على مواجهة العالم الكبير دونهم .

فى أثناء كل هذا لا يشعر بالوحدة بل يشعر بنقيض الوحدة : القوة ، والاكتفاء بما لديه ، الى ان تأتى لحظة ليكبر فيها ، لحظة يدرك فيها انه كان صغيرا رغم سنه الكبير ، يدرك فيها انه كان معاقا وكان يعتقد انه طبيعي ، يدرك انه ضعيفا ، هزيلا ليس قويا كما كان يعتقد ، بل يشعر ولاول مرة بالبرد يتخلل بداخله ليقبع فيه غير متنازلا عن تركه ........ فدوام الحال من المحال ، اللحظة هى وداع من يعرفهم ، وداع من كان يعتمد عليهم ، وداع من كان يـألفهم ويشعرونه بالطمائنينة والدفء .

يجد نفسه فجأة انه طفل صغير يتعلم كل شىء وكأنه طفلا يتعلم المشى بل طفلا يتعلم الوقوف على رجليه .

عليه ان يواجه العالم الكبير الذى رفضه بصغره ، عليه ان يعيش معه ، بل ويألفه ، كما عليه ان يكون مثلهم مخادعا بعد ان كان بسيطا ، لكى يعيش فى تلك الغابة المسماة بالعالم الكبير .

فى البداية يرفض هذا العالم على ان يعيش فيه وينتمى اليه ، بل يلفظه ويصرخ بكلمة لا ، لن أعيش معكم
ويقول للكل ؛ إنه بخير وهو يعلم بداخله إنه على غير ذلك ، يعلم إنه خائفا من هذا العالم ، إنه مشتتا – تائها لا يعرف ماذا يفعل فى تلك الحياة الجديدة عليه والتى فرضت أيضا عليه ليعيشها .

تارة يحاول جاهدا ان يصمد ويكون طبيعيا وتارة أخرى يهفوا لعالمه الخاص ليعيش فيه لكن هذه المرة يعيشه وحيدا دون من أحبهم وبنوا له عالمه الخاص .

يطحن – يشتت – يتعب – يضعف – يجن ، الى ان يهتدى لعالم أخر يصنعه بيده ليساعده على المضى قدما فى تلك الحياة الجديدة
عالم وسط بين العالمين الصغير والكبير ، بين الخاص والعام ...... عالم يكون فيه صغيرا مع الجميع ، ويكون فيه كبيرا مع نفسه ومع من أحب عن طريق الذكريات .

هنا اختار الوحدة بإرادته ليعيش فيها مع عالمه الخاص الذى تعود عليه ويشعره بذاته ، فهو عالم بالنسبة له بمثابة البوصلة التى يهتدى بها الى نفسه قبل إهتدائه لاى شىء أخر .

سؤال : لما اختار الوحدة بإرادته ؟! لانها ترشده لنفسه ، لانه بيلتقى فيها بما كان ومع من كان معهم ، فالوحدة التقاؤه بمن أحبوه ، التقاؤه بعالمه الخاص الذى لا يعرف سواه ، فى هذا العالم حين ينظر لنفسه فى المرآة يعرف هو من يكون ، يعرف أوله من أخره عكس العالم الكبير، الذى كلما نظر لنفسه فيه لا يرى سوى شبح يدل عليه ، يشعر بالبعد عن نفسه وهوة تزيد حجمها كلما كان فى هذا العالم الفسيح .

يقرر وقتها ان يأخذ هدنة من لهث هذا العالم الذى يصيبه بالارهاق ، هدنة ليلتقى فيه بعالمه الصغير ( الخاص ) الذى تعود وتألف عليه ، ويكأنه يأخذ نفس عميق به ليزفره فى العالم الفسيح .

صحيح يكون وحيدا فى ذاك العالم بإرادته لكنه ايضا وحيدا فى العالم الكبير المخيف ، دون إرادته ، فهو فيه ليعيش ، بينما وحدته فى عالمه الصغير والتى بإرادته لا ليعيش بل بها يقوى على العيش فى دونها ، فمن غيرها سيكون واحد من اثنين ( ميتا أو مجنونا )

وحدته بعالمه الخاص بمثابة الروح بدون جسد ، بينما وحدته الاخرى جسد بدون روح لذا كان عليه أن يجمعهما لكى يستمر بالحياة قدما .

إن نصحته بتركه للعالم الذى مضى ليتمسك ويعيش بالعالم الباقى له لن يقوى على تنفيذ تلك النصيحة ، لانه لن يستطيع ان يكون غير نفسه مدة طويلة فهو بالفعل يصبح إنسان آخر غير نفسه عندما يكون بالعالم الكبير ، لا يستطيع ان يتخلى عن هويته فترة طويلة لكى لا يعد من تعداد المجانين وتصبح نهايته مع الموتى .

هنا الوحدة اختيار لابد منه وعليه ان يختارها لكى يستمر فى تمثيلية تحكى للجميع أنه يعيش ، ومعهم بل وطبيعيا مثلهم ،،،، ترى!!! من يخدع هنا ؟ هل يخدعهم بانه طبيعى وإعتاد عليهم أم انه يخدع نفسه قبلهم ؟ لم تفرق معه الاجابة فالنتيجة واحدة انه يعيش قصة وهمية البطل فيها الخداع ، قصة بيدعوا دوما فيها بان ينتهى هذا الخداع لينال الراحة مع من أحب .

فليختلس اذا فترات وحدته التى اختارها بارادته ليتنفس الصعداء ويعشم نفسه بان دوام الحال من المحال وغدا ليرتاح من هذه الحيرة بإنتهاء تلك القصة ( إنتهاء حياته ) .

ذاك هو الوقت الذى يختار فيه الوحدة بإرادته .