الفوائد العشرة ... لمن غض بصره
[b] امتثال لأمر الله الذي هو غاية سعادة العبد في معاشه ومعاده ،
وليس للعبد في دنياه وآخرته أنفع من امتثال أوامر ربه تبارك وتعالى ،
وما سعد من سعد في الدنيا والآخرة إلا بامتثال أوامره ،
وما شقي من شقي في الدنيا والآخرة إلا بتضييع أوامره .
يمنع من وصول أثر السهم المسموم الذي لعل فيه هلاكه إلى قلبه
أنه يورث القلب أنسا بالله وجمعية على الله ، فإن إطلاق البصر يفرق القلب ويشتته
، ويبعده من الله ، وليس على العبد شيء أضر من إطلاق البصر
فإنه يوقع الوحشة بين العبد وبين ربه .
يقوي القلب ويفرحه ، كما أن إطلاق البصر يضعفه ويحزنه
أنه يكسب القلب نورا كما أن إطلاقه يكسبه ظلمة ،
ولهذا ذكر الله آية النور عقيب الأمر بغض البصر ، فقال :
( قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم )
، ثم قال اثر ذلك :
( الله نور السماوات والأرض ، مثل نوره كمشكاة فيها مصباح )
، أي مثل نوره في قلب عبده المؤمن الذي امتثل أوامره واجتنب نواهيه ،
وإذا استنار القلب أقبلت وفود الخيرات إليه من كل جانب ،
كما أنه إذا أظلم أقبلت سحائب البلاء والشر عليه من كل مكان ،
فما شئت من بدعة وضلالة واتباع هوى ،
واجتناب هدى ، وإعراض عن أسباب السعادة واشتغال بأسباب الشقاوة ،
فإن ذلك إنما يكشفه له النور الذي في القلب ،
فإذا فقد ذلك النور بقي صاحبه كالأعمى الذي يجوس في حنادس الظلام .
أنه يورث الفراسة الصادقة التي يميز بها بين المحق والمبطل ، والصادق والكاذب ،
وكان شاه بن شجاع الكرماني يقو
ل : من عمر ظاهره باتباع السنة وباطنه بدوام المراقبة ، وغض بصره عن المحارم ،
وكف نفسه عن الشهوات ،
واعتاد أكل الحلال لم تخطئ له فراسة ؛ وكان شجاع هذا لا تخطئ له فراسة .
أنه يورث القلب ثباتا وشجاعة وقوة ، ويجمع الله له بين سلطان البصيرة والحجة
وسلطان القدرة والقور ، كما في الأثر :
" الذي يخالف هواه يفر الشيطان من ظله " ،
وضد هذا تجده في المتبع هواه من ذل النفس ووضاعتها ومهانتها وخستها وحقارتها ،
وما جعل الله سبحانه فيمن عصاه ، كما قال الحسن :
" إنهم وإن طقطقت بهم البغال وهملجت بهم البراذين ، فإن ذل المعصية لا يفارق رقابهم ،
أبى الله إلا أن يذل من عصاه "
، وقد جعل الله سبحانه العز قرين طاعته والذل قرين معصيته ،
فقال تعالى : ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين )
، وقال تعالى : ( ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين )
، والإيمان قول وعمل ، ظاهر وباطن ، وقال تعالى :
( من كان يريد العزة فلله العزة جميعا ، إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه )
، أي من كان يريد العزة فليطلبها بطاعة الله وذكره من الكلم الطيب والعمل الصالح
، وفي دعاء القنوت : " إنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت " ،
ومن أطاع الله فقد والاه فيما أطاعه، وله من العز سب طاعته ،
ومن عصاه فقد عاداه فيما عصاه فيه ، وعليه من الذل بحسب معصيته .
أنه يسد على الشيطان مدخله من القلب ، فإنه يدخل مع النظرة
وينفذ معها إلى القلب أسرع من نفوذ الهواء في المكان الخالي
، فيمثل له صورة المنظور غليه ويزينها ، ويجعلها صنما يعكف عليه القلب ، ثم يعده ويمنيه ويوقد على القلب نار الشهوة
، ويلقي عليه حطب المعاصي التي لم يكن يتوصل إليها بدون تلك الصورة ،
فيصير القلب في اللهب ، فمن ذلك تلد الأنفاس التي يجد فيها وهج النار
، وتلك الزفرات والحرقات ، فإن القلب قد أحاطت به النيران من كل جانب
، فهو وسطها كالشاة في وسط التنور
، ولهذا كانت عقوبة أصحاب الشهوات بالصور المحرمة :
أن جعل لهم في البرزخ تنوراُ من نار ، وأودعت أرواحهم فيه إلى حشر أجسادهم
، أراها الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- في المنام في الحديث المتفق على صحته . أنه يفرغ القلب للتفكر في مصالحه والاشتغال بها ،
وإطلاق البصر يشتت عليه ذلك ويحول بينه وبينها فتنفرط عليه أموره ويقع في اتباع هواه
وفي الغفلة عن ذكر ربه ، قال تعالى :
( ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا )
، وإطلاق النظر يوجب هذه الأمور الثلاثة بحسبه
أن بين العين والقلب منفذا أو طريقا يوجب اشتغال أحدهما بما يشغل به الآخر ،
يصلح بصلاحه ويفسد بفساده ، فإذا فسد القلب فسد النظر ،
وإذا فسد النظر فسد القلب ، وكذلك في جانب الصلاح ،
فإذا خربت العين وفسدت خرب القلب وفسد ، وصار كالمزبلة التي هي محل النجاسات والقاذورات والأوساخ
، فلا يصلح لسكنى معرفة الله ومحبته والإنابة إليه ، والأنس به
، والسرور بقربه ، وإنما يسكن فيه أضداد ذلك .
--