لقاءٌ بلا موعد ح22 ــ بقلم الكاتب رجب الجوابرة

لقاءٌ بلا موعد ح22 ــ بقلم الكاتب رجب الجوابرة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لكن قائد الكتيبة السادسة المرابطة في القرية (جمال عبد الناصر) رحمه الله .. لم يذعن لحرب الأعصاب .. ولا الانذارات التي وجهت إليهِ بالتسليم .. ثبت مع جنودهِ إلى جانب أهل القرية .. واستطاعوا صد هجوم العدو الكاسح لاحتلال القرية ...
وفي كتاب مذكرات (جمال عبد الناصر في حرب فلسطين) يصف فيها إحدى معارك الاقتحام ويقول :
ــ كانت المعركة تبدو للوهلة الأولى محاولةً يائسةً .. ولكنني عندما ألتفتُ الآن إلى الوراء إلى سبعِ سنواتٍ مضت على وجه التقريب .. على هذه المعركة وحين تستفرد ذاكرتي على تفاصيلها العجيبة .. لا أستطيع أان أمنع نفسي من أن أقول : كان ذلكَ يوماً من أروع أيام حياتنا .. وحين أمضي في استعراض الذي حدث منذ ظهرت دبابات العدو لأول مرة تهدر في الطريق إلى مواقعنا ومنذ اكتسحت هذه الدبابات طريقاً لنفسها حتى وصلت إلى قلب (عراقالمنشية) ومنذ خرجت من مبنى الرئاسة .. حيث لم يعد يجدي تنظيم لكي أدفع كل رجل قادر على حمل السلاح إلى أن يحاول بجسدهِ أن يوقف تقدم الدبابات ... حين استعرض هذا الذي حدث بكل دقائقهِ .. ثم أتذكر كيف تطور هذا الموقف في ساعة واحدة أعود فأقول :
كان اللهُ قائدنا في هذه المعركة ...
كان كل شيء يتطور بسرعة غير معقولة .. فصيلة الحمالات تقدمت إلى حقل مزروع بالتين الشوكي .. وكانت مدافع البيات الصغيرة التي تستطيع مقاومة الدبابات من مسافة قريبة جاهزةً في أيديهم في انتظار من يصدر لهم أمراً ... الأوامر التي بعثتها إليهم مع احد الضباط .. أن يتقدموا ليقفلوا الثغرة التي فتحها العدو في خطوطنا وتسرب منها إلى داخل نطاق دفاعنا .. وكان الهجوم متجهاً إليهم .. وكل الأصول والقواعد تفرض عليهم أن يعودوا إلى الوراء .. ومع ذلك فإني حين طلبتُ من الباشجاويش أن يتقدم ويصمد .. لم أجد إلا الحماسة منطلقة .. لا تلوي على شيء ... تسلل واحدٌ منهم وسط التين الشوكي وفي يدهِ مدفع البيات .. وعلى أعصابهِ تصميمٌ في متانة الصلب .. ظل ينتظر حتى أصبحت الدبابة على بعد عشرة أمتار منهُ ثم أطلق عليه مدفعهُ وإذا الطلقة تصدمها مباشرة وتمزقها في لمح البصر .. وفي نفس الوقت كان ضابط الفصيلة التي اكتسحها العدو ومر فوق مواقعها يمسك مدفع بيات آخر يصوبهُ ويطلقهُ من بعد أمتارٍ قليلة .. فإذا دبابة ثانية تنفجر وتتمزق ... ومضى الله القائد الذي يدير معركتنا يواصل عمله المقدس فإذا إحدى الدبابات .. دبابة ثالثة تنفجر وإذ بها مست لغماً من الألغام التي كنا زرعناها على الأرض وما كان أقلها حول مواقعنا ...
وهكذا وبسرعةٍ لم يقدرها أحد .. تعطلت ثلاث من دبابات العدو الست المتقدمة .. وأحس باقي القطيع من الدبابات أن الأمر يتطور على غير ما كان متوقعاً .. فإذا هي تدير نفسها وتعود مضطربة إلى حيثُ أتت .. ولم أستطع من مكاني أن أتابع الذي يجري كلهُ في نفس الوقت .. كانت هناك دقائق من الفوضى والغموض هي دائماً من مستلزمات المعارك اليائسة .. ولكنني بدأت أحس أن الموقف في كل ناحية قد تغير .. بدأت مدافع العدو تدك مواقعنا .. وكانت لذلك دلالةً هامة .. معناها أن العدو سحب جنودهُ من حيث كانوا استطاعوا التقدم إلى خطوطنا .. وإلا لما كان استعمل المدفعية لكي يصيبنا ويصيب جنودهُ معنا ..
ثم مر من أمامي وأنا واقف والقنابل مظلة مروعة فوق (عراق المنشية)
جندي يحمل بندقية جديدة .. لمحت البندقية وناديتهُ أسأله من أين جاء بها .. وقال بسذاجة مرحة تلعلع الفرحة في نبرتها : من اليهود يا أفندي ...
ثم بدأت التفاصيل تتجمع في يدي .. لقد انتصرنا على العدو .. عل الأقل صمدنا أمام هجومٍ بدأ ساحقاً للوهلة الأولى لدرجة أن مواقعنا ديست بدبابات العدو .. ثم استطاع جنودنا أن يستردوا الأرض التي فقدناها ويردوا دبابات العدو على أعقابها بعد ضياع نصف عددها تماماً وتعطله ..
وكان خير دليل على غيظ العدو وجنودهِ بما حدث .. هذا الضرب المركز بالمدفعية على (عراق المنشية) كان ضرباً حاقداً مفلوت الأعصاب ...
عدتُ إلى مركز الرياسة .. كنتُ قد غادرتهُ منذ ساعة والهزيمة تكاد تهوي فوق رؤوسنا .. وها أنا أعود إليه بعد ساعة عشنا فيها نصراً أشبه بمعجزات السماء ..
(إلى هنا وينتهي وصف الرئيس جمال عبد الناصر لهذه المعركة .. اقتبستها من كتاب مذكراتهِ التي صاغها بالتعاون .. مع الصحفي المشهور (محمد حسنين هيكل) في منتصف الخمسينيات ...)

***********
في قلب هذه المعارك التي شهدتها هذه القرية .. كان عبد الحميد الريان يعيش هذه الأجواء .. ورأى بنفسهِ محاولات العدو اليائسة لاقتحام القرية بعد إحكام الطوق عليها من جميع الجهات ..
هذا الانسان الذي فرضت عليه الظروف وقادتهُ حماستهُ لتأدية واجبهِ نحو وطنهِ فلسطين .. نسي أو تناسى مصير أسرتهِ وماذا حل بها بعد احتلال قريتهِ .. ولا يدري أيّ شيءٍ عن عائلتهِ .. انحصر كلُّ تفكيرهِ في الوضع الذي تعيشهُ عراق المنشية تحت الحصار والطوق المحكم حولها .. أصبح واحداً من أفراد أهل القرية .. أو واحداً من عناصر الجيش المصري الذي يعيش نفس الظروف .. رأى أهل القرية .. كيف كان تلاحمهم وتعاطفهم مع الجيش المحاصر .. وأن القضية ليست مقتصرةً على الشعب الفلسطيني وحدهُ ... هاهم الجنود المصريون يضحون بأرواحهم في سبيل الله والقضية العادلة .. وتأدية الواجب نحو الله والوطن فكان يقول في نفسهِ :
يتبع ـــــــــــــــــــــ إلى اللقاء في الحلقة التالية
مع تحيات رجب الجوابرة