لقاءٌ بلا موعد ح24 ــ بقلم الكاتب رجب الجوابرة

لقاءٌ بلا موعد ح24 ــ بقلم الكاتب رجب الجوابرة
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
وصل عبد الحميد إلى غزة بمعية الجنود المصريين العائدين من عراق المنشية .. وقد خلع عنهُ بزته العسكرية .. محتاراً من أين يبدأ وأين يتجه .. بعد أن عاش التجربة القاسية المريرة في عراق المنشية .. ماذا عليه أن يفعل وقد فقد الكثير .. فقد أرضهُ وعقاراته وأمواله وكل ما يملك .. وأصبح صفر اليدين .. لكن إرادتهُ القوية وتصميمهِ على أن يبدأ الحياة من جديد .. جعلتهُ يتسلح بالأمل الكبير .. في أن يعثر على أسرتهِ المفقودة ويبحث عنها دون كللٍ أو ملل .. وهذا ما خفف عنهُ مصابهُ الجلل في تركِ أرضهِ وبيتهِ التي استولى عليها العدو الصهيوني بالقوة .. وهنا لا بد لهُ أن يبحث عن عمل يستطيعُ بهِ مواصلة حياتهِ اليومية ...
لجأ إلى بعض صيادي السمك ليكون واحداً منهم يواجهُ البحر في مخاطرهِ التي لا تقل خطورةً عن حصار عراق المنشية .. وفي نفس الوقت صمم أن يبحث عن أسرتهِ بين الأسر التي تشتت وتجمعت في مخيمات أقيمت في أماكن شتى من القطاع الذي بقي من أرض فلسطين تحت السيطرة المصرية ... بحث عن عائلتهِ في جميع أنحاء المخيمات بحثاً دقيقاً ومتروياً .. ولكن لم يكن التوفيق حليفهُ .. ولم يسمع بشيءٍ عن سيرتهم .. ولكن دائماً وأبداً يبقى الأمل نصب عينيه .. بعض زملائهِ أشاروا عليهِ أن يسافر إلى الأردن .. فهناكَ أعدادُ كبيرةٌ من اللاجئين الفلسطينيين الذين لجأوا هناك .. فربما كغيرهم استقروا في المملكة الأردنية الهاشمية ..
مفاجأةٌ كبرى حصلت بعد وصولهِ إلى غزة بثلاثة أعوام بعثت في النفوس الآمال الكبيرة في أن يستعيد هذا الشعب المشتت أرضهُ المسلوبة وأن تعود الحقوق لأصحابها الشرعيين .. وهي الثورة التي قام بها رفاقهُ من الضباط الأحرار .. ثورة الثالث والعشرين من شهر يوليو عام ألفٍ وتسع مائةٍ واثنين وخمسين .. وزوال الحم الملكي الفاسد .. وحلت محلهُ قيادة مخلصة من أبناء مصر الأحرار .. هذه القيادة يعرفها عبد الحميد جيداً .. وكيف لا يعرفهم وقد رافقهم جنباً إلى جنب في خندق المواجهة في الفالوجة وعراق المنشية .. وعلى رأسهم البكباشي جمال عبد الناصر .. ألذي أصبح رئيساً للجمهورية العربية المصرية كللها بعدة إجراءات وقرارات أنهى بموجبها سيطرة المستعمر البريطاني على مصر ... لتصبح جمهرية عربية حرة .. وتحقق الجلاء عن أرض مصر ومناطق قناة السويس ..
كان آخر قراراته هو تأميم قناة السويس عام ألفٍ وتسعمائةٍ وستةٍ وخمسين وجعلها شركة عربية مساهمة مصرية ...
انتهز عبد الحميد فرصتهُ عندما تألفت مجموعاتٌ فدائية .. تتسلل داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة .. ليقوموا بعمليات بطولية ضد العدو المحتل ..
التحق عبد الحميد بإحدى هذه المجموعات .. دخل عدة مرات إلى الأرض المحتلة وقام مع مجموعتهِ بعملياتٍ ناجحةٍ أذهلت العدو ...
أثناء العدوان الثلاثي على مصر .. تعمقت مجموعة عبد الحميد داخل الأرض المحتلة متجهةً إلى الشمال الشرقي حتى وصلوا قريباً من جبال الخليل الحرجية .. حيث أحيطت بدورية محمولة من جنود العدو .. وحدثت مواجهةً عنيفةً بين الطرفين .. ظل الفدائيون يدافعون عن أنفسهم حتى نفذت ذخيرتهم واستشهدوا جميعاً .. أما عبد الحميد فقد لجأ إلى شجرةٍ هرمة استطاع الاختفاء داخل ساقها المجوف حتى انسحبت الدورية بعد تأكدها القضاء على المجموعة .. ومن اللؤم أفرغوا كل ما لديهم من رصاص معبأ في رشاشتهم .. على جثثهم وهم فاقدي الحياة .. وعندما اختفت الحركة والصوت أطل برأسهِ على موقع المعركة ورأى زملاءهُ وقد قتلوا جميعاً .. لم تطاوعهُ دموعهُ في التساقط حزناً عليهم بل ترحم على أرواحهم وقام بتغطية جتتهم بأغصان الشجر .. ثم تركهم متجهاً إلى الشرق على غير هدى ولا يعرف أيَّ طريقٍ يسلكها .. وظل يقطع الحبال والوديان .. حتى رأى من بعيد بعض الأضواء الخافتة .. تدل على أنها لا تتبع للعدو .. ومشى حتى اقترب من الأبنية التي تدل على أن من يسكنها هم عربٌ مثلهُ .. لم يجد أمامهُ سوى الانتظار حتى يبزغ الفجر .. ليتأكد من المنطقة التي استطاع الوصول إليها .. جلس إلى جانب جدارٍ تحتَ شجرة تين .. وما هي إلا نصف ساعة وينطلق صياح الديوك .. ويسمع أذان الفجر مما جعلهُ يطمئن أنهُ الآن في أمان .. وتتسرب أصوات الماشية من بعيد إلى أذنيه .. وتأكد أنه الآن يرقدُ بجوار إحدى القرى العربية التي لم يصلها سرطان الاحتلال ... وتقترب منه الأصوات أكثر فأكثر ..إلى أن أصبحت على بعد أمتارٍ منهُ .. ثم نهض من مجلسهِ حاملاً سلاحهُ في كتفهِ .. يلبس لباساً شبه عسكري وراح يخطو بعض الخطوات نحو قطيع الغنم .. ويشاهد الراعي الذي اعتقد لأول وهلة أنه يشاهد أمامهُ جندياً يهودياً .. تسمر في مكانهِ باهتاً مذهولاً .. لكن عبد الحميد عرف ما يدور في نفس الراعي .. نادى عليهِ من بعيد :
ــ يا أخ ..! يا أخ ..! لوسمحت ..!!
تأكد الراعي أن الذي يقفُ أمامهُ ليس يهودياً كما كان يظن ..ركض نحوه وقال:
ــ لاشكَّ أنك فدائي ..! أليس كذلك ..؟؟
ابتسم عبد الحميد وأعجبهُ وصف الراعي لهُ وقال :
ــ نعم ..! أنا فدائي وقادم من قطاع غزة ..!!
سلّم عليه الراعي وعانقهُ ورحب بهِ أجمل ترحيب وقال :
ــ أهلاً وسهلاً بكَ يا أخي ..!!! انتظرني بعض الوقت ..!
انطلق الراعي إلى أقرب بيت ونادى صاحبه .. وأبلغهُ عن الفدائي ..
حضر صاحب البيت .. ودعاهُ إلى منزلهِ مهللاً ومرحباً بهِ وبمن يضعون أرواحهم على أكفهم في سبيل الله والوطن ..
علمَ جميع أهل القرية بمقدم عبد الحميد .. حيث جرى لهُ احتفالاً يليقُ بهِ .. ومكث في ضيافتهم خمسة عشر يوماً معززاً مكرماً .. إلى أن طلب منهم السماح لهُ بمغادرة القرية .. بلدة (إذنا) قضاء الخليل .. وبعد أن أكرموهُ خير إكرام .. وجمعوا لهُ مبلغاً من النقود .. غادرهم مكللا بكل حفاوةٍ وتكريم .. بعد أن أعلمهم أنهُ يريد البحث عن أسرتهِ التي يجهل مكانها ...

***********
خرج عبد الحميد من قرية إذنا معززاً مكرماً .. وبعد أن سأل واستفسر عن مواقع مخيمات اللاجئين في المنطقة .. وصل إلى مدينة الخليل .. عمل برنامجاً لنفسهِ بأن يبدأ من الجنوب .. ثم يتجه شمالاً وشرقاً حيث تقع مخيمات اللاجئين وكان عليهِ أن يبدأ من مخيم الفوار أولاً ....
صعد إلى داخل الحافلة التي تنقل الركاب إلى مخيم الفوار .. حيث أن مدينة الخليل هي المركز الرئيسي لتسوق أهل القرى والمخيمات المجاورة
وجد الحافلة تكاد تكون خالية من الركاب .. إلا أنهُ جلس في المقعد الخلفي الواسع .. ليتمكن من رؤية من يصعد ويدخل .. لعل وعسى أن يعرف أحداً
يحدقُ في وجهِ كل من يدخل .. إلى أن امتلأت الحافلة بالمسافرين ...
يتبع ــــــــــــــــــــــــ إلى اللقاء في الحلقة التالية ....
مع تحيات الكاتب رجب الجوابرة

بوركت ياأستاذنا وبورك يراعك
لك كل الإجلال ودوام محبتنا ودوام التقدير والإحترام

تحياتي
ماجدة_المغرب

شكراً يا صديقتي ماجدة على
هذه المتابعة الرائعة .. وكم أنا سعيدٌ
جداً بها .. وبكلماتك الرائعة .. لكِ مني
كل تقدير وكل احترام .. وأجمل تحياتي القلبية